من عنصر التقية الإيجابية البناءة ، وإيثار الله عند مداحض الباطل في مكان التقية
بحسن الروية ، على حد تعبير الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام (1) وهو يؤبن
أخاه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه .
ـ إنهم عليهم السلام يستفيدون من عنصر التقية في كل القضايا ، باستثناء
قضية الإمامة ، وشؤونها .. لأنهم أدركوا : أن التقية من شأنها أن تحفظ كل تلك
القضايا .. إلا قضية الإمامة ، وأحقيتهم بالأمر ، فإنها يمكن أن تضيعها ..
وإذن .. ومن أجل درء الخطر الذي يتهدد كيان الإسلام ووجوده من
الأساس .. فقد كان لا بد من بذل المهج ، وخوض اللجج ، من أجل أن ( يحق الله الحق بكلماته ، ولو كره المجرمون ) (2) ..
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الكاظم عليه السلام : السلام عليك يا أبة ،
وذلك حينما جاء الرشيد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال :
السلام عليك يا ابن عم ، في محاولة منه لإظهار : أن خلافته تتسم بالشرعية ،
لاتصاله نسباً به صلى الله عليه وآله وسلم ، لكونه ابن عمه ـ وقد نشأ عن هذا
الموقف اعتقال الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام وإيداعه السجن ، حيث
قضى عليه السلام مسموماً ، شهيداً ، صابراً ، محتسباً ـ .
وحتى حينما يضطر الإمام الحسن عليه السلام للصلح مع معاوية ، إيثاراً
____________
1 ـ راجع : تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 230 ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج 2
ص 314 ، وحياة الحسن بن علي عليه السلام للقرشي ج 1 ص 439 عنه ، وليراجع
حول التقية كتابنا : الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله ج 2 ص 40 ـ 46 .
وكلمات الإمام الحسين عليه السلام عند قبر أخيه ـ حسب نص ابن قتيبة هي :
« رحمك الله أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحق مظانَّة ، وتؤثر الله عند تداحض الباطل في
مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض
عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة ، ولا
غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى روح وريحان وجنة نعيم ، أعظم
الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه » .
2 ـ سورة يونس : آية 82 .
(109)
لطاعة الله في مداحض الباطل ، في مكان التقية ، فإنَّه يحسن الرَّوية ، ويهتم في أن
لا يقدم تنزلاً في قضية الإمامة ـ وإن توهم ذلك ابن قتيبة ـ ولا في قضية الخلافة
ـ وإن توهم ذلك آخر ـ وإنما تنازل عن الأمر (1) .. وإنما يقصد معاوية من
الأمر : الأمرة والملك ، فإنه لم يقاتلهم ليصموا ولا ليصلوا ، « وإنما ليتأمر
عليهم » أو « ليلي رقابهم » !! كما قال (2) .
ويقول معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسن عيله السلام : « رضينا بها
ملكاً » (3) .
وقد عبَّر عن ذلك هو وغيره في عدة مناسبات (4) .
وكان معاوية يقول عن نفسه : « أنا أول الملوك » (5) .
كما أن سعد بن أبي وقاص يقول لمعاوية : « السلام عليك أيها الملك » (6) .
والإمام الحسن عليه السلام يقول مشيراً إلى ذلك : « ليس الخليفة من سار
بالجور ، ذاك ملك ملكاً يتمتع به قليلاً ، ثم تنقطع لذته ، وتبقى تبعته .. » (7) .
هذا .. وقد اشترط عليه : السلام على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة !!
وأن لا يسميه « أمير المؤمنين » (8) . الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ما ذكرناه ..
وليس موقف الإمام الحسن عليه السلام هنا ، وتعبيره بكلمة : « الأمر » ،
____________
1 ـ الإمام الحسن لآل يس ص 108 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 22 وعن الإمامة
والسياسة ج 1 ص 150 و 156 وعن الصواعق المحرقة ص 81 .
2 ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 15 و 46 ومقاتل الطالبيين .
3 ـ البداية والنهاية ج 6 ص 200 .
4 ـ الإمام الحسن بن علي لآل يس ص 110 ـ 114 عن المصادر التالية : تاريخ الطبري
ج 5 ص 534 و 536 | 537 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 205 والبداية والنهاية ج 6
ص 221 و 220 وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 183 ومروج الذهب ج 2 ص 340 .
5 ـ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 232 .
6 ـ المصنف ج 1 ص 291 .
7 ـ تقدمت المصادر لذلك .
8 ـ البحار ج 44 ص 2 وليراجع كلام الصدوق رضوان الله تعالى عليه في البحار ج 44
ص 2 ـ 19 وفي علل الشرايع ج 1 ص 212 فما بعدها ..
(110)
واشتراطه ماذكر .. إلا كتعبير النبي صلى عليه وآله عن حاكم الروم بـ « عظيم
الروم » ، وعن حاكم القبط والفرس بـ « عظيم القبط » (1) و« عظيم فارس » (2) .
ولم يقل : ملك الروم ، ولا ملك القبط وفارس ، لئلا يكون ذلك تقريراً لملكهما .
وما يدل على ذلك في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من الأئمة ،
كثير ، لا مجال لتتبعه ..
فالإمام الحسن عليه السلام لم يستعمل التقية في أمر الأمامة ، وإنما سلَّم
إلى معاوية الأمر النيوي الذي أُشيرَ إليه بقوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) .
وهو حكم الدنيا وسلطانها ، والملك المحض ، ولم يعترف له بالإمامة الدينية
والبيعة ، والخلافة الشرعية (3) .
هذا .. وقد صرح الإمام الحسن عليه السلام في كتبه وخطبه ، بأنه لم يكن
يرى معاوية للخلافة أهلاً ، وإنما صالحه من أجل حقن دماء المسلمين ، وحفاظاً
على شيعة أمير المؤمنين .. بل لقد قال له فور تسليمه الأمر إليه :
« إن معاوية بن صخر زعم إني رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها
أهلاً ، فكذب معاوية . وأيم الله ، لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله ، وعلى
لسان رسول الله صلى الله عليه وآله ، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين
مظلومين ، مضطهدين ، منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالله بيننا وبين
من ظلمنا حقنا الخ » (4) .
وقد كتب له أيضاً فور البيعة له عليه السلام : « فليتعجب المتعجب من
توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله » (5) .
____________
1 ـ راجع التراتيب الإدارية ج 1 ص 142 .
2 ـ كنز العمال ج 4 ص 274 .
3 ـ راجع : الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص 110 و 114 وعن شرح نهج البلاغة ..
4 ـ أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 172 والاحتجاج ج 2 ص 8 والبحار ج 44 ص 22
و 63 و ج 10 ص 142 وبهج الصباغة ج 3 ص 448 .
5 ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 34 وستأتي بقية المصادر حين الكلام تحت =
(111)
وسيأتي قوله عليه السلام : « نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ،
وعلى لسان نبيه » . ومثل ذلك كثير عنه .
هذا .. وقد تمدَّحه أخوه الإمام الحسين عليه السلام على استعماله التقية ،
وعلى حسن رويّته فيها ، كما تقدم ..
كما أنه حينما ذُكر له عدم استجابة الإمام الحسن عليه السلام لمن دعاه
للثورة على معاوية بعد الصلح ، قال عليه السلام : « صدق أبو محمد ، فليكن كل
رجل منكم من أحلاس بيته ، ما دام هذا الإنسان حياً » (1) .
كما أنه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام ، يدافع عن موقف
أخيه في قضية الصلح ، في رسالة منه لأهل الكوفة ، ويأمرهم بالسكون إلى أن
يموت معاوية (2) .
بل إن الإمام الحسن عليه السلام نفسه يعتبر صلحه مع معاوية خيراً من
ألف شهر ، فقد سئل مرة عن أسباب صلحه مع معاوية ، فأجاب : ليلة القدر خير
من ألف شهر (3) ..
وما ذلك إلا لأن صلحه هذا قد فضح الأمويين ، وفضح معاوية بالذات ،
وجعله يعلن عن أهدافه الشريرة ، وفوت عليهم الفرصة لهدم الإسلام ، والقضاء
على أهل البيت وشيعتهم (4) . ومهد الطريق لثورة الإمام الحسين ، ثم إلى زوال
الحكم الأموي البغيض ، وإلى الأبد ..
وبعد .. فإننا نرى : أن مما يدخل في مجال العمل على إفشال تلك الخطة
____________
= عنوان : هل كان الإمام الحسن عليه السلام عثمانياً حين ذكر الشواهد على أنه كان
مدافعاً قوياً عن حق أبيه في النموذج رقم 4 .
1 ـ الأخبار الطوال ص 221 وراجع ص 220 .
2 ـ الأخبار الطوال ص 222 .
3 ـ الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص 149 .
4 ـ الأخبار الطوال ص 220 و 221 والبحار ج 44 ص 2 وغير ذلك كثير .
(112)
أيضاً ، وإبقاء حق أهل البيت عليهم السلام ، وقضيتهم حية في ضمير الأمة
ووجدانها ، بالإضافة إلى ما تقدم من تأكيدات الإمام الحسن عليه السلام على
بنوته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى أنه من أهل البيت ، الذين
افترض الله طاعتهم إلى آخر ما تقدم .
ـ إن مما يدخل في هذا المجال : وصيته عليه السلام بأن يدفن عند جده
صلى الله عليه وآله ، مع علمه بعدم رضا عائشة والأمويين بذلك ، حسبما أشار
إليه هو نفسه عليه السلام في وصيته تلك ، وصدقته الوقايع التالية (1) وكان ذلك
هو السبب في ضرب الجدار على القبر الشريف (2) ، فإن تلك الوصية لم تكن إلا
____________
1 ـ راجع : البحار ج 44 ص 151 و 152 و 156 و 143 و 141 و 142 و 154 عن عيون
المعجزات ، والمعتزلي ، والكافي ، وعلل الشرايع ، وأمالي المفيد ، والخرايج
والجرايح ، وغير ذلك ، والفتوح لابن أعثم ج 4 ص 207 | 208 عن الترجمة الفارسية ،
والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 44 ، وأمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 161 وعلل
الشرايع ج 1 ص 225والخرايج والجرايح ص 223 وتذكرة الخواص ص 213 ومقاتل
الطالبيين ص 74 و 75 والأخبار الطول 221 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 14 و 15
و 50 | 51 وتاريخ اليعقوبي ج 2 225 وكتاب الفتن لنعيم بي حماد ( مخطوط )
الورقة 40 ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 229 | 230 والجوهرة في نسب الإمام
علي وآله ص 32 ووفاء الوفاء ج 2 ص 548 وصلح الحسن لآل يس ص 32 ومجمع
الزوائد ج 9 ص 178 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 139 وكشف الغمة للاربلي
ج 2 ص 211 و 212 والإرشاد للمفيد ص 212 و 213 وحليم أهل البيت الإمام
الحسن بن علي ص 252 و ذخائر العقبى ص 142 وإثبات الوصية ص 160 والاستيعاب
بهامش الإصابة ج 1 ص 377 وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 3 ص 62 و 60
و 61 و 64 و 65 غن تاريخ ابن عساكر ج 12 ص 63 و ج 64 ص 99 وغيرها ، ونقل
عن إثبات الهداة ج 5 ص 170 وعن الكافي ج 1 ص 304 وعن الخرايج وعن نظم درر
السمطين ص 203 والغدير ج 11 ص 14 .
2 ـ وفاء الوفاء ج 2 ص 548 عن الكازروني شارح المصابيح .
وقال : إنه سأل جمعاً من العلماء فذكر له بعضهم ذلك .
(113)
لإظهار صلته بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، التي يجهد الأمويون وأعوانهم
لقطعها وطمسها . كما أن هذه الوصية تهدف إلى التأكيد على أنهم عليهم السلام
مظلومون مقهورون ، مغتصبة حقوقهم ، منتهب براثهم ، كما قال أمير المؤمنين
عليه السلام : ( أرى تراثي نهباً ) (1) .
بالأضافة إلى تعريف الناس على ما يكنه أولئك الحكام وأعوانهم من حقد
وكره لأهل بيت النبوة ، الذين أمر الله ورسوله مراراً وتكراراً ليس فقط بمحبتهم ،
وإنما « بمودتهم أيضاً » (2) .
ومما يدخل في هذا المجال أيضاً موقف آخر ، هام جداً للإمام الحسن
عليه السلام في مقابل أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ،
فقال له :
انزل عن منبر أبي .
فأجابه أبو بكر : صدقت . والله ، إنه لمنبر أبيك ، لا منبر أبي . فبعث علي
إلى أبي بكر : إنَّه غلام حدث ، وإنا لم نأمره . فقال أبو بكر : إنا لم نتهمك (3) .
____________
1 ـ الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة .
2 ـ راجع بحث : الحب في التشريع الاسلامي في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ
والإسلام ج 2 للمؤلف .
3 ـ راجع : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 80 و 143 وتاريخ بغداد ج 1 ص 141 عن أبي
نعيم ، وغيره ، وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 26 |27 بسند صحيح
عندهم والصواعق المحرقة ص 175 عن الدار قطني ، والمناقب لابن شهر آشوب ج 4
ص 40 عن فضائل السمعاني ، وأبي السعادات ، وتارسخ الخطيب ، وسير الأئمة الإثني
عشر ج 1 ص 529 ، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص 123 عن الدارقطني ،
وشرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 42 | 43 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 93
وينابيع المودة ص 306 وحياة الصحابة ج 2 ص 494 عن الكنز وأبي سعد وأبي نعيم
والجابري في جزئه والغدير ج 7 ص 126 عن السيوطي ، وعن الرياض النضرة ج 1
(114)
وليتأمل قوله عليه السلام : إنا لم نأمره . فإنه لا يتضمن إنكاراً على الإمام
الحسن عليه السلام ، ولا إدانة لموقفه .
ولقد صدق أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلم يكن الإمام
الحسن عليه السلام يحتاج إلى أمر ، فلقد أدرك خطة الخصوم بما آتاه الله من
فضله ، وبإحساسه المرهف ، وفكره الثاقب . وهو الذي عايش الأحداث عن
كثب ، بل كان في صميمها .
وإذن .. فمن الطبيعي أن يدرك : أن عليه فيه مسؤولية العمل على إفشال تلك
الخطة ، وإبقاء حق أهل البيت وقضيتهم على حيويتها في ضمير ووجدان الأمة .
وكان علي وصي النبي صلى الله عليه وآله يحتاط للأمر ، حتى لا تحدث تشنجات
حادة ، ليس من مصلحة القضية ، ولا من مصلحة الإسلام المساهمة في حدوثها
في تلك الظروف .
ولا عجب إذا رأينا للإمام السبط الشهيد الحسين عليه السلام موقفاً مماثلاً
تماماً مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب .. ونجد أن عمر قد أخذه إلى بيته ،
وحاول تقريره : إن كان أبوه أمره بهذا ، أو لا . فأجابه عن ذلك بالنفي .
وبعض الروايات تقول : إنه سأله عن ذلك في نفس ذلك الموقف أيضاً ،
فنفى ذلك . فقال عمر : منبر أبيك والله ، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم (1)
____________
=
ص 139 ، وعن كنز العمال ج 3 ص 132 . وحياة الحسن للقرشي ج 1 ص 84 عن
بعض من تقدم . والاتحاف بحب الأشراف ص 23 .
1 ـ راجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 145، والإصابة ج 1 ص 333 وقال سنده
صحيح وأمالي الطوسي ج 2 ص 313 |314 وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار
ص 123 وحياة الصحابة ج 2 ص 495 عن كنز العمال ج 7 ص 105 عن ابن كثير
(115)
فأبو بكر لم يكن يرى : أن اتهام أمير المؤمنين في قضية الإمام الحسن من
صالحه .. أما عمر .. الذي رأى أنه قد أصبح قوياً في الحكم ، وقد تكرس
الموقف لصالح غير أهل البيت على الصعيد السياسي .. عمر هذا ـ يهتم بالتعرف
على مصدر هذه الأرهاصات ، ليعمل على القضاء عليها قبل فوات الأوان ، مادام
يملك القدرة على ذلك بنظره .
لقد كانت مواقف الحسنين هذه تعتبر تحدياً عميقاً للسلطة ، في أدقِّ وأخطر
قضية عملت من أجل حسم الأمور فيها لصالحها ، ورأت أنها قد وفقت في
مقاصدها تلك إلى حدٍ بعيد .. فجاءت هذه المواقف لتهز من الأعماق ما كاد
يعتبر ، أو قد اعتبر بالفعل من الثوابت الراسخة .
والحسنان هما ذانك الفرعان من دوحة الإمامة ، وغرس الرسالة ، اللذان
يفهمان الظروف التي تحيط بهما ، ويقيمانها التقييم الصحيح والسليم ، ليتخذا
مواقفهما على أساس أنها وظيفة شرعية ، ومسؤولية إلهية .
أما التكليف الشرعي ، والموقف الذي لأبيهما ، فهو وإن كان في ظاهره
____________
=
وابن عساكر وابن سعد وابن راهويه والخطيب والصواعق المحرقة ص 175 عن ابن
سعد ، وغيره، والاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 13 ، والمناقب لابن شهر آشوب ج 4
ص 40 ، وتاريخ بغداد ج 1 ص 141 ، وكشف الغمة للأربلي ج 2 ص 42 ، وحياة
الحسن للقرشي ج 1 ص 84 ، والإمام الحسن للعلايلي ص 305 عن الإصابة ،
وصححه ، وينابيع المودة ص 168 ، وتذكرة الخواص 235 ، وسيرة الأئمة الاثني عشر
للحسني ج 2 ص 15 وكفاية الطالب ص 224 عن مسند احمد ، وابن سعد وتهذيب
تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 324 وتهذيب التهذيب ج 2 ص 346 وصححه ، وفضائل
الخمسة من الصحاح الستة ج 3 ص 369 وهامش أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي
ج 3 ص 27 عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج 13 ص 15 ، أو 110 بعدة أسانيد ،
وترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص 141 و 142 وفي
هامشه عن ابن سعد ج 8 في ترجمة الإمام الحسين وعن كنز العمال ج 7 ص 105 عن
ابن راهويه وغيره والغدير ج 7 ص 126 عن ابن عساكر .
(116)
مختلفاً هنا ، إلا أنه ولا شك يخدم نفس الهدف ، ويسير في نفس الإتجاه ،
حسبما ألمحنا إليه .
ولعلنا لا نبعد كثيراً إذا قلنا : إن قضية أذان بلال كانت كذلك تخدم نفس
الهدف ، وتسير في نفس الاتجاه الذي توخياه صلوات الله وسلامه عليهما من
موقفيهما من أبي بكر وعمر ، حسبما تقدمت الإشارة إليه ..
ومجمل تلك القضية هو : أن بلالاً كان في الشام ، فقدم إلى المدينة لزيارة
قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، لرؤيا رآها .
وفيما هو يناجيه ، وإذا بالحسن والحسين قد أقبلا لزيارة جدهما وأمهما ،
فلما رآهما تجددت أحزانه ، وأقبل إليهما يضمهما إلى صدره ، ويقول : كأني
بكما رسول الله .
والتفتا إليه ، وقالا : إذا رأيناك ذكرنا صوتك ، وأنت تؤذن لرسول الله ،
ونشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل .
وانطلق بلال من ساعته إلى سطح المسجد ، تلبية لرغبة السبطين ، فأجهش
بالبكاء ، وانطلق صوته من ناحية المسجد إلى كل بيت في المدينة : الله أكبر ، لا
إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فهز المشاعر ، وارتجت المدينة من أصوات
الباكين .
ومضى الذهبي يقول : فلما قال بلال : أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، خرجت
العواتق من خدورهن ، وظن الناس أنَّ رسول الله قد بعث من قبره . وما رؤي يوم
أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم (1) .
____________
1 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 2 ص 259 وسير أعلام النبلاء ج 1 ص 258 وسيرة الأئمة
(117)
وهذه القضية هي غير قضية أذان بلال ، بطلب من الصديقة الطاهرة فاطمة
الزهراء عليها السلام ، وذلك لأن الأذان الذي كان بطلب من الحسنين عليهما
السلام إنَّما كان بعد وفاتها ، كما نصت عليه الرواية آنفاً (1) .
ومهما يكن من أمر ، فإن السياسة قد كانت تتجه إلى تناسي ذكر النبي صلى
الله عليه وآله ، والمنع من حديثه ومن العمل بسنته (2) وجعل ذكره مجرد أمر
روتيني لا أكثر ، فجاءت هذه الهزة لتعيد الربط العاطفي والشعوري بالرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليكون ذلك بمثابة إدانة للتوجه العام تجاه
الرسول وكل ما يرتبط به .
وإذا كانت الإمامة تقوم على ركنين رئيسين ، أحدهما : النص ، والآخر :
العلم . فإننا نجد الأئمة عليهم السلام يهتمون بإظهار هذا النص ، والتركيز عليه
باستمرار . وقد رأينا الإمام الحسن عليه السلام يهتم بهذه الناحية ، في كثير من
أقواله ومواقفه ، فلقد ذكر في خطبه : أنهم هم الذين افترض الله طاعتهم ، وأنهم
أحد الثقلين ، واستدل بحديث الغدير ، وبالأعلمية (3) وغير ذلك .
وكان هذا دأب الأئمة عليهم السلام وشيعتهم الأبرار بصورة عامة ، حتى
لقد رأينا الإمام علياً عليه السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في رحبة
____________
=
الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني ج 1 ص 531 | 532 وراجع : أُسد الغابة
ج 1 ص 208 ، وقاموس الرجال ج 2 ص 239 .
1 ـ راجع قاموس الرجال ج 2 ص 239 | 240 .
2 ـ راجع : كتاب الصحيح من سيرة النبي ج 1 ، الطبعة الثانية .
3 ـ راجع : الغدير ج 1 ص 198 عن ابن عقدة ومروج الذهب ج 2 ص 431 و 432
والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 11 و 12 وينابيع المودة ص 482 .
(118)
الكوفة وغيرها (1) .
والإمام الحسين عليه السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في
منى (2) .. إلى غير ذلك من مواقف لا مجال لتتبعها هنا .
وكذلك الحال بالنسبة إلى العلم ، فإنهم عليهم السلام ما فتئوا يؤكدون
على أنهم هم ورثة علم رسول الله صلى عليه وآله ، وعندهم الجفر ،
والجامعة ، وغير ذلك (3) ..
وقد رأينا : أن الإمام علياً عليه السلام يهتم في إثبات صفة علم الإمامة
للإمام الحسن عليه السلام منذ طفولته .. حتى ليصبح إطلاعه على تلك العلوم ،
التي لم ينل الآخرون منها شيئاً دليلاً على إمامته عليه آلاف التحية والسلام ..
ويلاحظ : أن أمير المومنين عليه السلام يهتم في إظهار ذلك لخصوص
أولئك الذين استأثروا بالأمر ، وأقصوا أصحاب الحق الحقيقيين عن حقهم الذي
جعله الله تعالى لهم ، وما ذلك إلا ليؤكد لهم ، ولكل أحد على أنهم ليسوا أهلاً
لما تصدّوا له ، فضلاً عن أن يكون لهم أدنى حق فيه ..
وقد اتبع عليه السلام في صياغة الحدث أسلوباً من شأنه أن يتناقله الناس ،
ويتندروا به في مجالسهم .. إذ أن إجابة طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات على
أسئلة عويصة وغامضة ، لأمر يثير عجبهم ، ويستأثر باهتمامهم .
____________
1 ـ راجع : الغدير ج 1 ودلائل الصدق ج 3 وغير ذلك كثير ..
2 ـ راجع : الغدير ج 1 ودلائل الصدق ج 3 وغير ذلك كثير ..
3 ـ راجع مكاتيب الرسول ج 1 ص 59 حتى ص 89 فقد أسهب القول حول هذه الكتب
واستشهادات الأئمة بها ، وغير ذلك .
ومن الطريف في الأمر : أننا وجدنا العباسيين يحاولون أن يدَّعوا : أن عندهم
صحيفة الدولة ، ولكنها تنتهي إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى علي عليه السلام . وقد
أشرنا إلى ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام ..
بل لقد حاول الأمويون أن يدَّعوا مثل ذلك أيضاً راجع : محاضرات الراغب ج 2
ص 343 .
(119)
فقد ذكر القاضي النعمان في شرح الأخبار ، بإسناده عن عبادة بن الصامت ،
ورواه جماعة عن غيره : أن أعرابياً سأل أبا بكر ، فقال : إني أصبت بيض نعام ،
فشويته ، وأكلته وأنا مُحرم ، فما يجب عليّ ؟
فقال له : يا أعرابي ، أشكلت عليّ في قضيتك . فدلهّ على عمر ، ودلَّه عمر
على عبد الرحمن بن عوف . فلما عجزوا قالوا : عليك بالأصلع .
فقال أمير المؤمنين : سل أي الغلامين شئت . ( وأشار إلى الحسن والحسين
عليهما السلام ) .
فقال الحسن : يا أعرابي ، ألك إبل ؟
قال : نعم .
قال : فاعمد إلي عدد ما أكلت من البيض نوقاً ، فاضربهن بالفحول ، فما
فصل منها فأهده إلى بيت الله العتيق الذي حجبت إليه .
فقال أمير المؤمنين : إن من النوق السلوب . ومنها ما يزلق (1) .
فقال : إن يكن من النوق السلوب وما يزلق ، فإن من البيض ما يمرق (2) .
قال : فسمع صوت : أيها الناس ، إن الذي فهًّم هذا الغلام هو الذي فهًّمها
سليمان بن داود (3) .
____________
1 ـ الناقة السلوب : التي مات ولدها ، أو القته لغير تمام ، وأزلقت الفرس : أجهضت ، أي
ألقت ولدها قبل تمامه ..
2 ـ مرقت البيضة : فسدت .
3 ـ المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 354 | 355 و 335 عنه وعن
العدد ، وحياة الحسن عليه السلام للقرشي ج 1 ص 86 | 87 .
وقد ذكر القضية لكن بدون إحالة السؤال على الإمام الحسن كل من : ذخائر
العقبى ص 82 وإحقاق الحق ج 8 ص 207 وفرائد السمطين ج 1 ص 342 | 343
والغدير ج 6 ص 43 عن بعض من تقدم ، وعن كفاية الشنقيطي ص 57 والرياض
النضرة ج 2 ص 50 و 194 وفي هامش ترجمة أمير المؤمنين لابن عساكر ج 49
ص 83 ، أو 498 ترجمة محمد بن الزبير .
(120)
وثمة قضية أخرى ، وهي قضية ذلك الذي أقرّ على نفسه بالقتل ، حينما
رأى : أن بريئاً سيقتل ، فحكم عليه أمير المؤمنين عليه السّلام بعدم وجوب
القَود ، فإنه إن كان قتل فعلاً ، فقد أحيا نفساً ، و من أحيا نفساً ، فلا قَوَد عليه .
قال ابن شهرآشوب : « وفي الكافي والتهذيب : أبو جعفر : إن أمير المؤمنين
عليه السّلام سأل فتوى ذلك الحسن ، فقال : يطلق كلاهما ، والدية من بيت
المال . قال : ولم ؟ قال : لقوله : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً » (1) .
وهناك أيضاً أسئلة الإمام عليه السلام لولده الإمام الحسن عليه السلام عن
السداد ، والشرف ، والمروّة ، وغير ذلك من صفات .. فأجاب عنها ،
فلتراجع (2) .
وأيضاً .. فهناك أسئلة ذلك الرجل عن الناس ، أشباه الناس ، وعن
النسناس ، فأحاله الإمام على ولده الإمام الحسن عليه السلام : فأجابه عنها (3) .
وسأل أمير المؤمنين عليه السلام ولده الإمام الحسن عليه السلام : كم بين
الإيمان واليقين ؟ قال : أربع أصابع . قال : كيف ذلك ؟ قال : الإيمان كل ما
سمعته أذناك الخ (4) ..
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فسأله عن الرجل ، إذا نام أين
تذهب روحه ؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه الأعمام
____________
1 ـ المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 11 . والآية في سورة المائدة آية 34 .
2 ـ راجع : نور الأبصار ص 121 وتهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 220 | 221 وحلية الأولياء
ج 2 ص 36 والبداية والنهاية ج 8 ص 39 وحياة الحسن عليه السلام للقرشي ج 1
ص 138 ـ 140 وكشف الغمة ج 2 ص 194 | 195 ، والفصول المهمة للمالكي 144
ومعاني الأخبار ص 243 و 245 وتحف العقول ص 158 | 159 وعن شرح النهج
للمعتزلي ج 4 ص 250 وعن البحار ج 17 وعن إرشاد القلوب للديلمي ج 1 ص 116
وعن مطالب السؤل .
3 ـ تفسير فرات ص 8 وعن البحار ج 7 ص 150 ط عبد الرحيم .
4 ـ العقد الفريد ج 6 ص 268 وليراجع البحار ج 43 ص 357 .
(121)
والأخوال .. واعتبر السائل أن إجابته على ذلك تعني : أن الذين غصبوا حقه
ليسوا بمؤمنين ، وإن لم يُجب فهو وإياهم شَرَع سواء .
وكان هو ، والحسن عليهما السلام ، وسلمان رحمه الله في المسجد
الحرام ، فأحاله على الإمام الحسن ، فأجابه بما أقنعه . ثم أخبر أمير المؤمنين
عليه السلام : أنه الخضر (1) .
وأرسل معاوية إلى أمير المؤمنين يسأله : كم بين الحق والباطل ؟ وعن
قوس قزح ، وما المؤنث ؟ وعن عشرة أشياء بعضها أشد من بعض ، فأحال ذلك
أمير المؤمنين عليه السلام على الإمام الحسن عليه السلام ، فأجابه عنها (2) .
وأرسل قيصر يسأل معاوية عن بعض المسائل ، فلم يعلم جوابها ، فأحالها
إلى الإمام الحسن عليه السلام (3) .
بل إننا نجد النبي صلى الله عليه وآله نفسه يرجع السؤال إلى الإمام الحسن
عليه السلام ، ليجيب عليه .. كما ورد في بعض النصوص (4) .
ويطلب الإمام علي عليه السلام منه : أن يكتب لعبد الله بن جندب ، فكتب
إليه :
« إن محمداً كان أمين الله في أرضه ، فلما أن قبض محمداً كنا أهل بيته ،
فنحن أمناء الله في أرضه ، عندنا علم البلايا والمنايا ، وأنساب العرب ، ومولد
الإسلام . وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان ، وبحقيقة النفاق » .
ثم يذكر عليه السلام ما لأهل البيت من الفضل العظيم ..
ويقول : « نحن أفراط الأنبياء ، ونحن أبناء الأوصياء ( ونحن خلفاء الأرض
____________
1 ـ إثبات الوصية ص 157 ، 158 ، والأحمدي عن البحار ج 14 ط كمباني ص 396
والاحتجاج مرسلاً مثله ، وعن المحاسن ، وعلي بن إبراهيم .
2 ـ البحار ج 43 ص 325 وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 66 وتحف العقول ص 160 ـ
162 . ونقل عن المعتزلي ج 10 ص 129 ـ 131 ، والظاهر أن ثمة اشتباهاً في الأرقام .
3 ـ راجع : ربيع الأبرار ج 1 ص 722 .
4 ـ البحار ج 43 ص 335 .
(122)
خ ل ) » . ثم يذكر منزلتهم ، ولزوم ولاية أمير المؤمنين .. وهي رسالة هامة
لا بأس براجعتها في مصادرها (1) .
وأخيراً .. فقد روي عن عبد الله بن عباس ، قال : مرت بالحسن بن علي
عليه السلام بقرة ، فقال : هذه حبلى بعجلة أنثى لها غُرَّة في جبهتها ، ورأس
ذنبها أبيض ، فانطلقنا مع القصاب حتى ذبحها ، فوجدنا العجلة كما وصف على
صورتها .. فقلنا له : أو ليس الله عز وجل ويعلم ما في الأرحام ، فكيف
علمت ، قال : إنا نعلم المخزون المكتوم ، الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ، ولا
نبي مرسل ، غير محمد وذريته (2) .
وليراجع قوله عليه السلام حول ما هو مكتوب على جناح الجرادة ، واعتبار
ابن عباس ذلك من مكنون العلم (3) .
وتفصيلات ذلك وسواه موجودة في المصادر التي في الهوامش .
لقد اتبع عمر بن الخطاب سياسة خاصة في العطاء ، تركت آثاراً سيئة في
نفوس الكثيرين ، وعلى المجتمع الإسلامي بصورة عامة .. سياسة تقوم على
التعصبات الجاهلية ، وتظهر فيها الامتيازات المادية والعرقية (4) ، التي جهد
____________
1 ـ الأحمدي عن البحار ط عبد الرحيم ج 7 ص 96 و 99 عن فرات وعن كنز الفوائد
ومعادن الحكمة ج 2 ص 173 عن الكافي وبصائر الدرجات .
2 ـ البحار ج 43 ص 328 و 337 .
3 ـ البحار ج 48 ص 337 والخرايج والجرائح ص 221 .
وثمة روايات أخرى تدخل في هذا المجال ، فليراجع على سبيل المثال : البحار
ج 44 ص 100 و 101 عن الاحتجاج عن سليم بن قيس .
4 ـ حول سياسة عمر في العطاء ، راجع ما تقدم من مصادر حين الكلام على التمييز
العنصري .
وراجع : تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 153 | 154 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 321
(123)
الإسلام ، ونبي الإسلام في القضاء عليها ، واستئصالها من الأساس . سياسة لم
يكن يرضاها أهل البيت ، وعلى رأسهم أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين ، بل لقد رفضها عليه السلام بشدة وحزم ، ورضي بأن يحقد عليه
القرشيون ، ويجيشوا الجيوش ، ويثيروا الحروب ، لأنه حرمهم من الامتيازات
التي منحهم إياها عمر بن الخطاب ، ومن أهمها امتيازات العطاء هذه (1) .
ولكن هذه السياسة الخاطئة ، فقد ألفتت إلى ناحية ، وكرست أمراً ، لم يكن
الخلفاء وأعوانهم قد التفتوا إليه ، ولا كان يروق لهم تكريسه ، أو أنهم قد التفتوا
إليه ، ولكنهم لم يمكنهم تحاشيه ، والتخلص منه .. وهو أمر واقعي ، كان لا بد
من الاحتفاظ به ، والإلتفات إليه بنحو ، أو بآخر .. ألا وهو الاعتراف الضمني بل
الصريح من الهيئة الحاكمة ، وعلى رأسها عمر بن الخطاب ، الشخصية القوية
جداً ، وذات النفوذ العظيم ـ نعم الاعتراف ـ بفضائل ومزايا الحسنين الزكيين
عليهما الصلاة والسلام ، حيث ألحقهم عمر بن الخطاب بأهل بدر ، تنبيهاً على
المكانة الممتازة التي كانا يتحليان بها ، ولم يكن بالإمكان التغاضي عنها ، أو
تجاهلها .
بل إننا لنجده « قسم يوماً ، فأعطاهما عشرين ألف درهم ، وأعطى ولده
عبد الله ألف درهم ، فعاتبه ولده ، فقال : قد علمت سبقي إلى الاسلام ،
وهجرتي ، وأنت تفضل علي هذين الغلامين ؟ ( وهذا يعني : أن ذلك قد كان في
أوائل خلافة عمر ) . فقال : ويحك يا عبد الله ، إئتني بجدٍ مثل جدهما ، وأنا
أعطيك مثل عطائهما » (2) .
____________
=
وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 533 والإمام الحسين للعلايلي ص 309
وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 111 وفتوح البلدان للبلاذري ، القسم الثالث ص 548
ـ 566 وغير ذلك .
1 ـ راجع : ما تقدم حين الكلام حول سياسة التمييز العنصري .
2 ـ الإمام الحسين للعلايلي هامش ص 309 عن تذكرة الخواص . ويرى المحقق العلامة
الأحمدي حفظه الله : أن تعليل عمر هذا لفعله ذاك ، لعله كان يرمي إلى الإشارة إلى أن
ما فعله لم يكن إلا لأجل انتسابهما لرسول الله صلى الله عليه وآله ، لا لأجل ما يتحليان
به من خصائص ومزايا . ولعله يتعمد صرف الأنظار عن ذلك .
(124)
وحينما طعن عمر بن الخطاب ، ورتب قضية الشورى على النحو
المعروف ، قال للمرشحين : « واحضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم من
أمركم شيء ، وأحضروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله ين عباس ، فإن لهما
قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما . وليس لهما من أمركم شيء . ويحضر
ابني عبد الله مستشاراً ، وليس له من الأمر شيء .. » فحضر هؤلاء (1) .
ويبدو : أن هذه أول مشاركة سياسية فعلية معترف بها ، بعد وفاة الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، أي بعد بيعة الرضوان ، وبعد استشهاد الزهراء
صلوات الله وسلامه عليها بهما في قضية فدك ، على النحو الذي تقدم .
ويلاحظ هنا : أنه قد اكتفى بذكر الإمام الحسن عليه السلام ، ولم يذكر
الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ، ولعل ما كان قد جرى بينهما ، وقول
الحسين له : انزل عن منبر أبي ، لم يغرب عن ذهن الخليفة بعد .
ولكنه قد ذكر عبد الله بن عباس ، الذي كان عمر يقربه ، ويهتم بشأنه ،
ولعل ذلك كان مكافأة لأبيه العباس ، الذي لم يتعرض لحكمهم وسلطانهم ، إن
لم نقل : إنه قد ساهم في تخفيف حدة التوتر في أحيان كثيرة فيما بينهم وبين
علي عليه السلام ، كما جرى في قصة البيعة لأبي بكر ، ثم في قصة زواج عمر
نفسه بأم كلثوم بنت أمير المؤمنين .. كما أنه لم يساهم في قتل القرشيين في بدر
ولا في غيرها .
بالإضافة إلى أن عمر يريد أن يوجد قرناء للإمام الحسن عليه السلام ،
____________
=
وأقول لكننا مع ذلك ، نفهم أنه لم يكن بإمكانه تجاهلهما ، وإن كان يمكن أن
يكون هدفه من تعليله ذاك هو ما ذكر .
1 ـ الإمامة والسياسة ج 1 ص 24 و 25 .
(125)
ويوحي بأنه كما له هو عليه السلام امتياز من نوع ما ، كذلك فإن غيره لا يفقد
هذه الامتيازات بالكلية ، بل له منها أيضاً نصيب ، كما للإمام الحسن عليه الصلاة
والسلام .
ثم .. هناك الدور الذي رصده لولده عبد الله الذي كان يرى في والده
المثل الأعلى الذي لا بد أن يحتذى ، وتنفذ أوامره ، وينتهي إلى رغباته وآرائه ،
ولا يجوز تجاوزها ..
وكان عمر يدرك طبعاً مدى تأثير شخصيته وهيمنته على ولده ، ويثق بأن
ولده سيجهد في تنفيذ المهمة التي يوكلها إليه .. ولكن لا بد من التخفيف من
التساؤلات التي ربما تطرح حول سر اختصاص ولده بهذا الدور دون سواه ،
فكانت هذه التغطية التي لا تضر ، والتي يؤمن معها غائلة طغيان الشكوك
والتفسيرات ، التي لايرغب في أن ينتهي الناس إليها في ظروف كهذه ..
ومن الجهة الثالثة .. فإن بأشراك الحسن عليه السلام وابن عباس ، على
النحو الذي ذكره من رجائه البركة في حضورهما .. يكون قد أضفى صفة الورع
والتقوى على خطته تلك ، وتمكن من إبعاد أو التخفيف من شكوك المشككين ،
واتهاماتهم ..
هذا باختصار .. ما يمكن لنا أن نستوحيه ونستجليه من الحادثة المتقدمة
في عجالة كهذه ..
ولكن موقف أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى ، ومناشداته بمواقفه
وبفضائله ، وبأقوال النبي صلى عليه وآله فيه ، قد أفسدت كل تدبير ، وأكدت
تلك الشكوك ، وأذكتها ..
وأما بالنسبة لقبول الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام للحضور في
الشورى ، فهو كحضور علي عليه السلام فيها .. فكما أن أمير المؤمنين قد أشترك
فيها من أجل أن يضع علامة استفهام على رأي عمر الذي كان قد أظهره ـ وهو
الذي كان رأيه كالشرع المتبع ـ في أن النبوة والخلافة لا تجتمعان في بيت واحد
أبداً ، بالإضافة إلى أنه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم ..
(126)
كذلك فإن حضور الإمام الحسن عليه السلام في هذه المناسبة إنما يعني
انتزاع اعتراف من عمر بأنه ممن يحق لهم المشاركة السياسية ، حتى في أعظم
وأخطر قضية تواجهها الأمة .. كما أن نفس أن يرى الناس مشاركته هذه ، وأن
يتمكن في المستقبل من إظهار رأيه في القضايا المصيرية ، ولو لم يُقبل منه ..
وأن يرى الناس أن من الممكن قول كلمة « لا » .. وأن يسمع الطواغيت هذه
الكلمة ، ولا يمكنهم ردها ، بحجة : أنها صدرت من هاشمي ، وقد قبل عمر
ـ وهو الذي لا يمكنهم إلا قبول كل ما يصدر عنه ـ مشاركة الهاشميين في
القضايا السياسية والمصيرية الكبرى ، وحتى في هذه القضية بالذات ..
نعم إن كل ذلك ، يكفي مبرراً ودليلاً لرجحان ، بل ولحتمية مشاركة الإمام
الحسن في قضية الشورى واستجابته لرغبة عمر في هذا المجال ..
كما أنه يكون قد انتزع اعترافاً من عمر بن الخطاب ، بأنه ذلك الرجل الذي
لا بد أن ينظر إليه الناس نظرة تقديس ، وأن يتعاملوا معه على هذا المستوى ..
ولم يكن ذلك إلا نتيجة لما سمعه عمر ورآه ، هو وغيره من الصحابة ، من أقوال
ومواقف النبي الأكرم بالنسبة إليه ، ولأخيه الحسين السبط عليهما الصلاة
والسلام .
وعليه .. فكل من يعاملهما على غير هذا الاساس ، حتى ولو كان قد نصبه
عمر وأعطاه ثقته ، ومنحه حبه وتكريمه ، فإنه يكون متعدياً وظالماً .. وحتى
مخالفاً لخط ورأي ، نظرة ذلك الذي يصول على الناس ويجول بعلاقته وارتباطه به .
نعم .. وقد رأينا الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام يذكر : ان الذي دعاه
للدخول في ولاية العهد ، هو نفس الذي دعا أمير المؤمنين للدخول في
الشورى (1) .
____________
1 ـ مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 364 ومعادن الحكمة ص 192 وعيون أخبار الرضا ج 2
ص 140 والبحار ج 49 ص 140 و 141 ، والحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام
ص 306 . عنهم .
(127)
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام
فليراجعه من أراد .